في السنوات الأخيرة، تحوّلت سلسلة التوريد من عملية لوجستية تقليدية إلى ركيزة استراتيجية تحدد قدرة المؤسسات على النمو، التكيف، وحتى البقاء. ومع تصاعد التحديات من أزمات سياسية إلى اضطرابات مناخية وسلوكيات مستهلكين أكثر وعيًا برزت الحاجة إلى أمر لا يقل أهمية عن التكنولوجيا أو السرعة ألا وهي الحوكمة.
لكن ما المقصود بـ “حوكمة سلسلة التوريد”؟ ولماذا أصبحت حديث الشركات العالمية وموضع اهتمام كبار المدراء التنفيذيين؟ تابع المقال ..
ما المقصود بحوكمة سلسلة التوريد؟
ببساطة، حوكمة سلسلة التوريد هي النظام الذي تضعه الشركات لضمان أن كل خطوة في سلسلة التوريد من استخراج المواد الخام إلى وصول المنتج النهائي للمستهلك تتم بشفافية، مسؤولية وكفاءة.
إنها أشبه بنظام عصبي يشرف على تدفق العمليات والقرارات والمعلومات، ويضمن أن الجميع “يلعب حسب القواعد”.
لكن ليست أي قواعد. بل قواعد ترتبط بقيم المؤسسة، القوانين المحلية والدولية، وأحيانًا ما يتوقعه المجتمع.
لماذا أصبحت الحوكمة أولوية الآن؟
لنفكر في هذا المثال الواقعي:
شركة ملابس شهيرة في أوروبا تعرضت لهجوم إعلامي بعد اكتشاف أن أحد مورديها في آسيا كان يستخدم عمالة دون السن القانونية.
رغم أن الشركة لم تكن متورطة بشكل مباشر، إلا أن الضرر لحق بسمعتها، وانخفضت مبيعاتها بنسبة 18٪ خلال ربع واحد فقط.
ما حدث هنا هو غياب الحوكمة في المستويات العميقة لسلسلة التوريد، وتحديدًا في ما يُعرف بـ Tier 3 and 4 suppliersأي الموردين غير المباشرين.
هذا المثال يعكس حقيقة واحدة:
في عالم اليوم، المؤسسة مسؤولة عن كل من يشارك في إنتاج وتسليم منتجها، سواء كانت تراه أم لا.
ركائز حوكمة سلسلة التوريد
- الشفافية: ما لا تستطيع رؤيته… لا يمكنك التحكم به
الشفافية لا تعني فقط معرفة من هو المورد، بل معرفة:
- من أين تأتي المواد الخام؟
- كيف تتم المعالجة؟
- ما ظروف العمل؟
- هل هناك تأثير بيئي أو اجتماعي؟
الشركات الرائدة اليوم تستخدم تقنيات مثل البلوك شين وأنظمة تتبع ذكية لتوثيق كل خطوة في رحلة المنتج. ليس فقط للامتثال، بل لبناء ثقة مع العملاء الذين يسألون: “من صنع هذا؟ وهل بطريقة مسؤولة؟“
- إدارة المخاطر: توقع المشاكل قبل أن تقع
في عالم سلاسل التوريد، المخاطر ليست فقط حاوية تأخرت في الميناء. بل قد تكون:
- توقف مصنع في بلد معين بسبب اضطراب سياسي.
- زيادة غير متوقعة في سعر مادة خام.
- تغييرات في قوانين التجارة أو البيئة.
حوكمة فعالة تعني وجود نظام لرصد وتحليل هذه التهديدات واتخاذ قرارات مبنية على بيانات.
- الامتثال: قوانين كثيرة، وسقف توقعات أعلى
المؤسسات يجب أن تضمن أن كل مورديها يلتزمون بالقوانين المحلية والدولية، مثل:
- قوانين العمل العادل
- معايير السلامة
- اللوائح البيئية
- قوانين منع الاحتكار
بل إن بعض الأسواق مثل الاتحاد الأوروبي تفرض الآن قوانين تلزم الشركات الكبرى بمراقبة سلسلة التوريد بالكامل، وليس فقط الشركاء المباشرين.
حوكمة الموزعين
الموزعون هم الجسر بين المنتجات المخزنة والفروع أو العملاء.
أي خلل في أدائهم ينعكس مباشرة على رضا العميل وتوازن المخزون.
نقاط حوكمة رئيسية للموزعين:
- تحديد واضح لدورهم وصلاحياتهم في العقود.
- إدماجهم في أنظمة التتبع الفوري (مثل DMS).
- مراقبة التزامهم بتسعيرة الشركة وشروط التخزين.
مثال تطبيقي:
في شركات الفرانشايز مثل Carrefour، هناك نظام مركزي يراقب أداء الموزعين المحليين للتأكد من الالتزام بمواصفات التوريد، مثل درجات الحرارة للأغذية المبردة، أو أوقات التسليم القصوى.
حوكمة الفروع ونقاط البيع
الفروع هي “الواجهة” التي يرى العميل من خلالها الشركة، سواء كانت مملوكة أو عبر الامتياز (الفرانشايز).
في حالة سلاسل مثل Lulu Hypermarket أو Panda، قد تتباين سياسات التشغيل من فرع لآخر إذا لم تكن هناك حوكمة مركزية واضحة.
نقاط حوكمة رئيسية للفروع:
- ضمان تطبيق موحد للسياسات مثل العروض، الأسعار، والتعامل مع المرتجعات.
- ربط نظام نقاط البيع POS مع نظام إدارة المخزون المركزي.
- تدريب الموظفين في الفروع على الامتثال لقواعد الجودة والخدمة.
أداة فعالة:
نظام تقارير أداء أسبوعية من الفروع إلى الإدارة العليا يتضمن مؤشرات: مدى توافر المنتجات، أوقات تسليم الموزعين، جودة التخزين، وملاحظات العملاء.
حوكمة شركات الشحن والنقل
شركات الشحن سواء محلية أو دولية هي المسؤولة عن نقل البضائع عبر السلسلة، ولها دور مباشر في ضبط التكاليف، الالتزام بالمواعيد، وسلامة المنتجات.
نقاط حوكمة رئيسية لشركات الشحن:
- التحقق من توافر الشهادات والامتثال للمعايير البيئية (خصوصًا في شحن الأغذية والمواد الخطرة).
- العقود التي تتضمن SLAs (اتفاقيات مستوى الخدمة) واضحة ومُلزمة.
- تتبع الشحنات عبر أنظمة GPS وربطها بمنصة الشركة.
مثال واقعي:
في سلسلة مثل Danube Hypermarket، يتم مراقبة شركات النقل عبر لوحة تحكم Dashboard تعرض الوقت المتوقع لوصول الشحنات، درجة حرارة التبريد، وأداء الناقلين في الوقت الفعلي.
كيف تطبّق الشركات الناجحة الحوكمة؟
Apple
تمتلك Apple برنامجًا صارمًا لتدقيق الموردين، وتصدر سنويًا تقريرًا علنيًا حول الأداء الأخلاقي والبيئي لكل مصنع تتعامل معه.
Unilever
تطبق نموذجًا متكاملًا يعتمد على مدونة أخلاقيات الموردين، ودمج تقنيات رقمية لرصد عمليات سلسلة التوريد، مع تقارير دورية عن الأثر الاجتماعي والبيئي.
Zara
استخدمت نماذج تتبع دقيقة لقطع الملابس والمواد، ما ساعدها في السيطرة على سلسلة التوريد بسرعة وتكيّفها مع الموضة السريعة، دون المساس بالقيم الأخلاقية.
Carrefour
تطبق نظامًا حوكميًا موحدًا يشمل الموردين، الموزعين، الفروع، والمخازن.
توفّر نظام ERP عالمي يربط جميع المتاجر، ويوثق كل عملية من المصدر إلى الفاتورة.
تحديات الحوكمة: لماذا لا يطبّقها الجميع؟
- قلة الشفافية في المراحل العميقة من السلسلة.
- عدم امتلاك الموردين الصغار للقدرات التقنية أو الإدارية.
- تكاليف التتبع والرقابة.
- التضارب بين أهداف الربحية والالتزام بالقيم.
ومع ذلك، فإن عدم الاستثمار في الحوكمة اليوم قد يكون أكثر كلفة على المدى الطويل.
كيف تبدأ شركتك في بناء حوكمة فعالة؟
- ارسم خريطة سلسلة التوريد بالكامل.
اعرف من هم الموردون المباشرون وغير المباشرين، وحدد الثغرات في الشفافية. - ضع سياسات حوكمة واضحة ومكتوبة.
تتضمن أخلاقيات العمل، معايير الجودة، والضوابط البيئية. - استخدم التكنولوجيا.
اعتمد أدوات تتبع، تحليلات تنبؤية، وأنظمة إدارة أداء الموردين. - درّب الموردين.
حوكمة قوية لا تعني السيطرة بل الشراكة. ادعم الموردين لفهم السياسات وتحقيقها. - اجعل الحوكمة جزءًا من ثقافة شركتك.
من الإدارة العليا إلى فرق الشراء، يجب أن يكون الالتزام بالمبادئ واضحًا ومترسخًا.
مع ازدياد تعقيد الشبكات التجارية وتزايد وعي المستهلك، لم يعد كافيًا أن تكون السلسلة فعالة؛ بل يجب أن تكون شفافة، أخلاقية، وتخضع لنظام حوكمي صارم.
حوكمة الموزعين، الفروع، وشركات الشحن لم تعد تفصيلًا إداريًا، بل أداة استراتيجية لبناء ثقة وسُمعة طويلة الأجل.
الشركات القادرة على “رؤية” كامل السلسلة واتخاذ قرارات استباقية على أساس بيانات دقيقة… هي من ستقود السوق وتحدّد معاييره.
